هل يخاف الحكام الاسبانيين من الأعلام المدريدي؟

هناك الكثير مما يستدعي الذهول في الطريقة التي تعامل بها الملك شارل الكبير، أو شارلمان ملك الفرنجة، مع “مقاطعة ساكسونيا” الألمانية، فقد حُكمت المقاطعة في القرن الخامس عشر من قبل الأغنياء والنبلاء، بينما خضع لهم الشعب تمامًا، وبعد سيطرة شارلمان على المقاطعة، أصدر سلسلة من القوانين تهدف إلى إخضاع العامة لمُلكه هو أيضًا، مع الحفاظ على ولاء الأعيان، فكان يتعامل مع العامي باعتباره “إنسان”، ويتعامل مع النبيل باعتباره “ظل إنسان”، بمعنى أن القانون كان يقضي بمعاقبة السارق بقطع اليد، ويعاقب القاتل بقطع الرأس، أما النبيل فتحكم عليه المحكمة بقطع (ظل) يده، و(ظل) رأسه، هكذا بكل بساطة.


الكارثة هي أن عامة الشعب من الفقراء والكادحين كانوا سعداء بهذا القانون العنصري، ورأوه تجليًا حقيقيًا للعدالة، ربما لأنهم مغيبين عقلياً، أو مغلوبين على أمرهم، لا ندري بالضبط، ولكن ما نعلمه جيدًا، أن قانون ساكسونيا ظل معمول به حتى يومنا هذا، وأن غياب العدل والمحسوبية والشللية أصبحت هي السمة الرئيسية لمباريات الدوري الإسباني، وأن لكل زمان “شارلمانه” الخاص، وقانونه الذي يقطع رأس الضعيف، ولا يحاسب القوي إلا بالوقوف في الشمس بعض الوقت، حتى يقطع رأس ظله فقط.


انفجار الوضع

كالعادة؛ تستمر شكوى الأندية الإسبانية من تعرضها الدائم للظلم التحكيمي، في دائرة بدأت منذ سنوات، واستمرت في النمو والدوران والتشظي حتى وصل بها الحال إلى التشكيك في نزاهة الحكام ابتداًء، وهو تشكيك يحمل بعض الصحة، حيث شهد الدوري الإسباني هذا الموسم العديد من الأخطاء التحكيمية الكارثية، والتي أثّرت على نتائج المباريات بشكل واضح، آخرها كانت ضربة الجزاء غير المحتسبة لصالح نادي إشبيلية في مباراته ضد برشلونة، والتي ارتدت بعد لحظات قليلة، متحولة إلى هدف ثالث لبرشلونة، أي أن فرصة إشبيلية في إدراك التعادل، تحولت بفعل الخطأ التحكيمي إلى رصاصة رحمة سرقت منه المباراة، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين، خاصة وأنها ليست الفضيحة الأولى هذا الموسم.


قبل ذلك بقليل جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما قرر حكم الساحة مونيز رويز، عدم طرد لاعب نادي إسبانيول، كارلوس روميرو، بعد تدخله العنيف على الفرنسي كيليان مبابي نجم ريال مدريد، وهو التدخل الذي استحق على إثره البطاقة الحمراء طبقًا لنص “المادة 12” الخاص بـ “الأخطاء وسوء السلوك”: “يطرد اللاعب أو البديل أو المستبدل وتشهر له البطاقة الحمراء إذا كان مذنبا بارتكاب اللعب العنيف”، ورغم ذلك، اكتفى رويز بإشهار البطاقة الصفراء فقط، وما زاد الطين بلّة هو عدم تدخل الفار الممثل في زميله الحكم ايغليسياس فيلانوفا بأي شكل من الأشكال، وكأن الأمر لا يعنيه.


بعد المباراة، بعث ريال مدريد برسالة وشكوى شديدة اللهجة للاتحاد الاسباني، حملت داخلها نقدًا لاذعًا لما أسموه “النظام الفاسد”، جاء فيها: “إن الأحداث التي وقعت خلال المباراة قد تجاوزت أي هامش للخطأ البشري أو التفسير، حيث وصلت القرارات ضد النادي إلى مستوى من التلاعب والتأثير لا يمكن تجاهله”، بعدها؛ التقطت وسائل الإعلام الرسمية في مدريد طرف الخيط، وبدأت في نسج خيوط المؤامرة، حيث زعم خبراء في القناة أن هذا القرار، تحديدًا، يثبت ضلوع رئيس اللجنة الفنية للحكام، لويس كانتاليخو، في مؤامرة ضد مدريد، كما طلب النادي من الاتحاد الإسباني لكرة القدم تقديم تسجيلات صوتية للمحادثات بين الحكام على أرض الملعب وتقنية الفيديو، بالإضافة إلى المحادثات في غرفة الفيديو.


وهو ما استدعى ردًا حاسمًا من الاتحاد الاسباني للدفاع عن “شفافية ونزاهة” التحكيم، كما عبر عن أسفه لـ”خطورة هذه الاتهامات التي تشكك في نزاهة التحكيم وسير البطولات المحلية”، وطالب باحترام الحكام “مهما كانت القرارات المختلف عليها”، وبعدها بساعات قليلة، دخل رئيس رابطة الدوري الإسباني خافيير تيباس على خط المواجهة، وشنّ هجوما ضاريًا على فلورنتينو بيريز، ثم كتب عبر حسابه الرسمي على إكس ما مفاده: “لم أتفاجأ على الإطلاق من رسالة ريال مدريد، لأنها لم تذكر أشياء مختلفة عن تلك التي تقولها المحطة التلفزيونية الخاصة بهم باستمرار، ذلك ليس إلا تجليًا لنفس الكلام المكرر”.


وفي اليوم التالي من مباراة إسبانيول والميرنغي، دعت لجنة الحكام جميع حكام الدرجتين الأولى والثانية إلى اجتماع طارئ، لم يحضره ريال مدريد، رغم تأكيدات صحيفة “آس” الإسبانية أن اللجنة المجتمعة قررت إيقاف 10 حكام من الدرجتين الأولى والثانية حتى إشعار آخر بسبب الأخطاء التحكيمية الفادحة بمن فيهم حكمي الساحة والفار في مباراة إسبانيول وريال مدريد، وبناءً عليه؛ ذكرت تقارير صحفية، منها الصحفي إسحاق فوتو من صحيفة “كوبي”، أن حكام الدوري الإسباني يفكرون في عقد إضراب عام وشامل، بعد رسالة من ريال مدريد المشككة في نزاهتهم، وقرارات الإتحاد الإسباني القاسية.


وانفرط العقد

الغريب، أن التغطية الإعلامية المدريدية أشارت واستندت بقوة على “فضيحة نيجريرا” في معرض تبيانها لصلافة التحكيم الاسباني، تلك القضية التي تورط فيها نائب رئيس لجنة التحكيم السابق، خوسيه ماريا نيجريرا، والذي حصل على مبلغ إجمالي قدره 7.3 مليون يورو من برشلونة بين عامي 2001 و 2018، وذلك عن طريق شركة “داسنِل 95” لتقديم المشورات الفنية والتحكيمية المملوكة له، كما أن ابنه جوزيه كان عضوا في اللجنة التقنية للحكام، إلى جانب قيادته للشركة.


وهو ما زاد التوتر، حيث أشارت صحيفة “الكونفيدونسيال” إلى أن الحكم المعتزل سانتياغو خايمي لاتري، قد كشف عن خدمة أخرى تلقى على أساسها ابن نيجريرا أموالًا من الحكام، وتشير المعلومات إلى أنه في إجراءات المحكمة رقم 1 ببرشلونة، برئاسة خواكين أغيري، ظهر ما مجموعه 7 تحويلات بقيمة 200 يورو من حساب تخص خايمي لاتري، إلى حساب آخر يخص روميرو، وقد دفعت هذه الأموال بالتوازي مع الأموال التي دفعها برشلونة للشركة، وهو ما اعترف به نجل نيغريرا نفسه، كما أقر برشلونة بعد ذلك بدفع أموال لنيغريرا بعدما استعان به النادي كـ”مستشار خارجي” يزود النادي بتقارير “تتعلق بالتحكيم”.


إذن؛ بما أن برشلونة ارتكب فعلًا العديد من الأخطاء والجرائم القانونية والإدارية، وريال مدريد يعاني الأمرين بسبب التحكيم، إذن فنحن أمام مؤامرة متكاملة الأركان ضد الميرنغي وبطله المخلص السيد فلورنتينو بيريز، كلام عظيم جدًا، ودليل إدانة لا يشق له غبار، مشكلته الوحيدة فقط أنه كلام يفتقد إلى السياق، ويلعب لعبة “ساكسونيا”، أي أنه يطالب بإدانة الإتحاد الإسباني وبرشلونة على هذه القضية، ومعه كامل الحق، ولكن دون أن ينظر إلى جرائم مدريد أيضًا، والدليل هو ما استعادته بعض وسائل الإعلام الكتالونية من تصريحات سابقة أدلى بها الحكم المعتزل خافيير فرنانديز، وتحدث فيها عن موقف كان بطله ريال مدريد.


في تلك التصريحات تذكر إسترادا كيف عوقب من الاتحاد الإسباني بسبب طرده كريستيانو رونالدو في مباراة مدريد أمام خيتافي عام 2009، حيث قال: “أحرز كريستيانو الهدف الرابع في الدقيقة 84 وهنا أشهرت البطاقة الصفراء له بسبب خلع قميصه، وبعد دقائق قليلة تشاجر مع لاعب من خيتافي فعاقبته ببطاقة صفراء ثانية ثم حمراء”، وهو ما أغضب مشجعي ريال مدريد وتعرض لهجوم عنيف في الصحافة المدريدية لتكون النتيجة إبعاده عن تحكيم مباريات مدريد لعامين كاملين، ما يعني أن ريال مدريد له أياد داخل الاتحاد تمكنه من فعل ما يريد. حسنًا، دليل إدانة، ما رأيك به؟


أما الدليل الآخر، فهو ما حدث في مباراة ألميريا، وهي المباراة التي أعقبت مباراة خيتافي مباشرةً، وانتهت 3-2 لصالح مدريد، وفيها ثلاثة أخطاء تحكيمية صبت كلها في جعبة الميرنغي، الأولى كانت في الدقيقة 57، حين نبه حكم الفيديو زميله في الملعب إلى وجود ركلة جزاء محتملة بسبب لمسة يد من المدافع كايكي أثناء صراعه على الكرة في الهواء مع خوسيلو، ليحتسب الحكم ركلة جزاء ضد ألميريا نفذها جود بيلينجهام، لكن ألميريا اشتكى من أن الحكم لم يأخذ في الاعتبار وجود خطأ على خوسيلو.


وبعد أربع دقائق، شن ألميريا هجمة مرتدة سريعة ليتقدم بهدف عن طريق سيرجيو اريباس، خريج أكاديمية مدريد، لكن الحكم طلب مراجعة الشاشة. وهذه المرة، ألغى هدف أريباس بسبب وضع لوبي يده في وجه بيلينجهام أثناء بناء الهجمة، عندها؛ توسل لاعبو ألميريا إلى الحكم، زاعمين أن الاحتكاك كان بسيطًا، لكن الحكم لم يعدل عن قراره، ثم بعد ذلك في الدقيقة 67، احتسب الحكم ركلة حرة لصالح ألميريا بعد أن سجل فينيسيوس جونيور هدفًا بيده، وعندما طُلب منه العودة للفار مرةً أخرى، أعاد إحتساب الهدف، وقد ظهر صوته في التسجيلات يقول: “رائع، لقد ضرب الكرة بكتفه وكانت هدفًا صحيحًا، لا يوجد أي مخالفة”.


هل هذا كافٍ للتدليل على تغول ريال مدريد؟ ربما لو ألصقنا به بعض الأزمات التحكيمية التي تعرض لها برشلونة ستصبح السردية أكثر منطقية، وأكثر “ساكسونية” أيضًا، مثلًا: عدم احتساب ركلة جزاء لصالح المدافع الفرنسي جول كوندي في مباراة برشلونة وخيتافي، والتي انتهت بالتعادل 1-1، أو عدم احتساب الحكم كورجيرو فيغا ركلتي جزاء للاعبي البلوجرانا خلال لاس بالماس في نوفمبر، الماضي والتي انتهت بخسارة البلوغرانا 1-2، كما أن مساعده في “الفار” بوسكيتس فيرير لم يتدخل في كلتا اللقطتين.


في مفهوم العدالة

شئ أخير، تلك النقاشات لا تقتصر على إسبانيا فقط، بالعكس؛ فأزمة الثقة في الحكام تنتشر في أوروبا كالنار في الهشيم، ولكن الحكام الاسبان تحديدًا، وللمفاجأة، يتعاملون مع تلك الضغوط بشكل أفضل؛ فالصعود إلى الدرجة الأولى في كرة القدم الإسبانية أمر شاق ومتعب للغاية، حيث يتعين عليك المرور بجميع الفئات، ولذلك إذا سألت أي حكم إسباني عن بداية رحلته، ستجد أنه بدأ في سن صغيرة جدًا، في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر تقريبًا، وتشكل وعيه مع صافرات واستهجانات الجمهور المعادية، ما يبلد مشاعره ويعطيه خبرة كافية لإنشاء درع حماية يضع خلاله كل هذه الضغوط في مقياسها الصحيح.


والآن لنعد طرح السؤال: هل أي من ذلك كافٍ للتدليل على تغول أو فساد ريال مدريد أو برشلونة أو أي نادٍ؟ الإجابة: لا، قطعًا، ببساطة لأن كرة القدم لم تكتشف حتى الآن طريقة ناجعة لمحاكمة الحكم، وهذا راجع بالأساس لأزمة أخرى؛ ألا وهي كثرة القرارات التي يتخذها الحكم ابتداءًا، فطبقًا لإحصائية أصدرتها لجنة الحكام الإنجليزية (PGMO)، يتخذ الحكم حوالي 245 قرارًا في المباراة الواحدة، أي قرار واحد كل 22 ثانية تقريبًا، تنقسم إلى حوالي 45 قرارًا فنيًا تشمل الأهداف والركنيات والتسللات ورميات التماس وما إلى ذلك؛ وال 200 الباقية هي قرارات تتعلق بـ الالتحامات والاحتكاك والقرارات النظامية مثل استمرار اللعب، وهنا يظهر السؤال: كم عدد القرارات الصحيحة التي يتخذها الحكم؟


للمفاجأة؛ هي أكثر بكثير مما تتوقع، وأكثر بكثير مما يتخذه أي شخص في أي مهنة كانت، 98% هي نسبة قرارات الحكم الصحيحة، أي أن نسبة الخطأ لا تتجاوز 2%، والآن فكر قليلًا؛ هل هناك أي مهنة في العالم لا تتجاوز نسبة خطأها 2% وتسمى فاشلة؟ والإجابة؛ لا أيضًا، بل هي نسبة جيدة جدًا، خاصةً وأنها قلت أكثر مع دخول الفار والتقنيات الحديثة التي تساعد الحكم، إذن هل وجوه الحكام ناصعة البياض؟ الإجابة، لا أيضًا، وربما تكون هناك مؤامرة فعلًا على مدريد أو برشلونة أي نادٍ آخر، الفكرة أنه حتى لو كانت هناك مؤامرة، لن نستطيع الكشف عنها، إذن ولماذا كل هذا التجني على الحكام؟


حقيقةُ؛ لا نعلم، أو ليس هناك سبب واضح يمكن أن نضع أيادينا عليه، حسنًا؛ ربما لأن حكام الفيديو أعطوا أملًا للجمهور في نهاية عصر الأخطاء للأبد، فإذا بهم، ورغم تقليصهم مساحة الأخطاء فعلًا، يعطوا الفرصة لأخطاء أخرى في الظهور والتجلي، وربما تلك هي الحياة، ليس فيها إجابة نهائية لأي شئ، ومن سره زمن ساءته أزمان، وربما لأن لكل زمان “شارلمانه” الخاص، وقانونه الذي يقطع رأس الضعيف، ولا يحاسب القوي إلا بالوقوف في الشمس بعض الوقت، وربما لأن غياب العدل والمحسوبية والشللية أصبحوا مشاع، والصورة أصبحت مشوشة، و”قانون ساكسونيا” الجديد لم يعد بوضوح “قانون ساكسونيا” الحقيقي، فلم تعد تعلم من هو شارلمان الجديد؟ الجمهور أم الأندية أم الحكام؛ ربما هو كلهم، “والعيب في النظام” كما قال خالد الذكر الأستاذ برايز في أحد الأفلام المصرية الشهيرة.

المصدر : 365scores